سورة ص - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


قوله: {ص} قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف. وقرأ أبيّ بن كعب، والحسن، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم، وابن أبي عبلة، وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين، وقيل: وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض، والمعنى: صاد القرآن بعملك، أي: عارضه بعملك، وقابله، فاعمل به، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، وقال: إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى: أتله، وتعرّض لقراءته. وقرأ عيسى بن عمر: {صاد} بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، وقيل: نصب على الإغراء. وقيل: معناه: صاد محمد قلوب الخلق، واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً: أنه قرأ: {صاد} بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور، وابن السميفع: {صاد} بالضم من غير تنوين على البناء نحو: منذ، وحيث.
وقد اختلف في معنى {صاد}، فقال الضحاك: معناه: صدق الله.
وقال عطاء: صدق محمد.
وقال سعيد بن جبير: هو: بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين.
وقال محمد بن كعب: هو: مفتاح اسم الله.
وقال قتادة: هو: اسم من أسماء الله.
وروي عنه أنه قال: هو اسم من أسماء الرحمن.
وقال مجاهد: هو: فاتحة السورة. وقيل: هو: مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحقّ كما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة. قيل: وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد، أو اسم للسورة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر، أو اقرأ، والواو في قوله: {والقرءان ذِى الذكر} هي: واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره، وعلوّ محله، ومعنى {ذِى الذكر}: أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء. قال مقاتل: معنى {ذِى الذكر}: ذي البيان.
وقال الضحاك: ذي الشرف كما في قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي: شرفكم، وقيل: أي: ذي الموعظة.
واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟ فقال الزجاج، والكسائي، والكوفيون غير الفراء: إنه قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64]، وقال الفراء: لا نجده مستقيماً لتأخره جدًّا عن قوله: {والقرءان}، ورجح هو، وثعلب: أن الجواب قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا}، وقال الأخفش: الجواب هو: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ}، وقيل: هو صاد، لأن معناه: حقّ، فهو: جواب لقوله: {والقرءان} كما تقول: حقاً والله، وجب والله. ذكره ابن الأنباري، وروي أيضاً عن ثعلب، والفراء، وهو مبنيّ على أن جواب القسم يجوز تقدّمه، وهو ضعيف.
وقيل: الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن ذي الذكر لتبعثنّ، ونحو ذلك.
وقال ابن عطية: تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار، والقول بالحذف أولى. وقيل: إن قوله: {ص} مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في {والقرءان} للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه، وأنه حقّ، وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}، فأضرب عن ذلك، وكأنه قال: لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه. بل هم في عزّة عن قبول الحقّ، أي: تكبر، وتجبر. وشقاق، أي: وامتناع عن قبول الحقّ، والعزّة عند العرب: الغلبة، والقهر، يقال: من عزَّ بزَّ، أي: من غلب سلب، ومنه {وَعَزَّنِى فِى الخطاب} [ص: 23] أي: غلبني، ومنه قول الشاعر:
يعزّ على الطريق بمنكبيه *** كما ابترك الخليع على القداح
والشقاق: مأخوذ من الشقّ، وقد تقدّم بيانه. ثم خوّفهم سبحانه، وهدّدهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار، فقال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} يعني: الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل، أي: كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء، وأشدّ قوة، وأكثر أموالاً، وكم هي: الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، ومن قرن تمييز، و{من} في {مِن قَبْلِهِمُ} هي لابتداء الغاية. {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} النداء هنا: هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص. قال الحسن: نادوا بالتوبة، وليس حين التوبة، ولا حين ينفع العمل. والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت، والتأخر. ولات بمعنى: ليس، بلغة أهل اليمن.
وقال النحويون: هي: لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم: ربّ، وربت، وثمّ وثمت قال الفراء: النوص: التأخر، وأنشد قول امرئ القيس:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص ***
قال: يقال: ناص عن قرنه ينوص نوصاً أي: فرّ، وزاغ. قال الفراء: ويقال: ناص ينوص: إذا تقدّم. وقيل: المعنى: أنه قال بعضهم لبعض: مناص، أي: عليكم بالفرار، والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص، فقال الله: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال سيبويه: لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر، أي: ليس حيننا حين مناص. قال الزجاج: التقدير: وليس أواننا. قال ابن كيسان: والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد، والأخفش. قال الكسائي، والفرّاء، والخليل، وسيبويه، والأخفش: والتاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف.
وقال أبو عبيد: تكتب متصلة بحين، فيقال: (ولا تحين)، ومنه قول أبيّ، وجرة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف *** والمطعمون زمان ما من مطعم
وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر:
تذكر حبّ ليلى لات حينا *** وأمسى الشيب قد قطع القرينا
قال أبو عبيد: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين، وأوان، والآن. قلت: بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر:
فلتعرفن خلائقا مشمولة *** ولتندمنّ ولات ساعة مندم
وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} في محل نصب على الحال من ضمير نادوا. قرأ الجمهور: {لات} بفتح التاء، وقرئ: {لات} بالكسر كجير {وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ} أي: عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزّة وشقاق أن جاءهم منذر منهم، أي: رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمرّوا على الكفر، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض، أي: من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم {وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ} قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، أي: هذا المدّعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدّعيه من أن الله أرسله. قيل: ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر. ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد، وما نفاه من الشركاء لله، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا} أي: صيرها إلها واحداً، وقصرها على الله سبحانه: {إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} أي: لأمر بالغ في العجب إلى الغاية. قال الجوهري: العجيب: الأمر الذي يتعجب منه. وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، قرأ الجمهور: {عجاب} مخففاً. وقرأ عليّ، والسلمي وعيسى بن عمر، وابن مقسم بتشديد الجيم. قال مقاتل: عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل: والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحدّ في العجب، كما يقال: الطويل الذي فيه طول. والطوال: الذي قد تجاوز حدّ الطول، وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدّد الجيم لا بالمخفف، وقد قدّمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات. {وانطلق الملأ مِنْهُمْ} المراد بالملأ: الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز، أي: انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين: {أَنِ امشوا} أي: قائلين لبعضهم بعضاً امضوا على ما كنتم عليه، ولا تدخلوا في دينه. {وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ} أي: اثبتوا على عبادتها، وقيل: المعنى: وانطلق الأشراف منهم، فقالوا للعوامّ: امشوا، واصبروا على آلهتكم، و{أن} في قوله: {أَنِ امشوا} هي: المفسرة للقول المقدّر، أو لقوله: {وانطلق}، لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر، أو للمذكور، أي: بأن امشوا.
وقيل: المراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة. إذا كثرت ولادتها، أي: اجتمعوا، وأكثروا، وهو بعيد جدًّا، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق، والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة {إِنَّ هذا لَشَئ يُرَادُ} تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر، أي: يريده محمد بنا، وبآلهتنا، ويودّ تمامه، ليعلو علينا، ونكون له أتباعاً، فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه، والتنفير عنه. وقيل: المعنى: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل: المعنى: إن دينكم لشيء يراد، أي: يطلب، ليؤخذ منكم، وتغلبوا عليه، والأوّل أولى. {مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة} أي: ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي: ملة النصرانية، فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، والسدي.
وقال مجاهد: يعنون: ملة قريش، وروي مثله عن قتادة أيضاً.
وقال الحسن: المعنى: ما سمعنا أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل: المعنى: ما سمعنا من اليهود، والنصارى أن محمداً رسول {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} أي: ما هذا إلا كذب اختلقه محمد، وافتراه. ثم استنكروا أن يخصّ الله رسوله بمزية النبوّة دونهم، فقالوا: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} والاستفهام للإنكار أي: كيف يكون ذلك، ونحن الرؤساء، والأشراف. قال الزجاج: قالوا: كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا، ونحن أكبر سناً، وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقال: {بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى} أي: من القرآن، أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حقّ منزل من عند الله {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} أي: بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي، فاغترّوا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشكّ لصدّقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب} أي: مفاتيح نعم ربك، وهي النبوّة، وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم، ولإنكار ما تفضل الله به على هذا النبيّ، واختاره له، واصطفاه لرسالته. والمعنى: بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة. والعزيز: الغالب القاهر. والوهاب: المعطي بغير حساب. {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء؟ وقوله: {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب} جواب شرط محذوف، أي: إن كان لهم ذلك، فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء، أو إلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء، ومنع، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
والأسباب: أبواب السماوات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد، وقتادة، ومنه قول زهير:
ولو رام أسباب السماء بسلم ***
قال الربيع بن أنس: الأسباب: أدقّ من الشعر، وأشدّ من الحديد، ولكن لا ترى.
وقال السدّي: {فِى الاسباب}: في الفضل، والدين. وقيل: فليعملوا في أسباب القوّة إن ظنوا أنها مانعة، وهو قول أبي عبيدة. وقيل: الأسباب: الحبال، يعني: إن وجدوا حبالاً يصعدون فيها إلى السماء فعلوا، والأسباب عند أهل اللغة: كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان. وفي هذا الكلام تهكم بكم، وتعجيز لهم {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحزاب} هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم، والظفر بهم، و{جند} مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم جند، يعني: الكفار، مهزوم: مكسور عما قريب، فلا تبال بهم، ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك منا لكيد، و{ما} في قوله: {مَّا هُنَالِكَ} هي: صفة لجند لإفادة التعظيم، والتحقير، أي: جند أيّ جند. وقيل: هي زائدة، يقال: هزمت الجيش: كسرته، وتهزمت القرية: إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدّم، وهو قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزّتهم، وشقاقهم، فإني أسلب عزّهم، وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك، ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله.
وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله، وابن عباس عن {ص}، فقال: لا ندري ما هو.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: {ص} محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عنه {والقرءان ذِى الذكر} قال: ذي الشرف.
وأخرج أبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال: ليس بحين نزو، ولا فرار.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال: نادوا النداء حين لا ينفعهم، وأنشد:
تذكرت ليلى لات حين تذكر *** وقد بنت منها والمناص بعيد
وأخرج عنه أيضاً في الآية قال: ليس هذا حين زوال.
وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضاً قال: لا حين فرار.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ} الآية قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب، فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه عنه {وانطلق الملأ مِنْهُمْ} قال: أبو جهل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة} قال: النصرانية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب} قال: في السماء.


لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله ذكر أمثالهم ممن تقدّمهم، وعمل عملهم من الكفر والتكذيب، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد، وتد يديه، ورجليه، ورأسه على الأرض. وقيل: المراد بالأوتاد: الجموع، والجنود الكثيرة، يعني: أنهم كانوا يقوّون أمره، ويشدّون سلطانه كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا. قال ابن قتيبة: العرب تقول: هم في عزّ ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت، ويقوم بالأوتاد. وقيل: المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم، أي: وفرعون ذو الأبنية المحكمة. قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو، وكسر التاء، ويقال: وتد بفتحهما، وودّ بإدغام التاء في الدال، وودت. قال الأصمعي: ويقال: وتد واتد مثل شغل شاغل، وأنشد:
لاقت علي الماء جذيلاً واتدا *** ولم يكن يخلفها المواعدا
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الأَيْكَةِ} الأيكة: الغيضة، وقد تقدّم تفسيرها، واختلاف القرّاء في قراءتها في سورة الشعراء، ومعنى {أُوْلَئِكَ الأحزاب}: أنهم الموصوفون بالقوّة، والكثرة كقولهم: فلان هو الرجل، وقريش وإن كانوا حزباً كما قال الله سبحانه فيما تقدّم: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحزاب} [ص: 11]؛ ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً، وأعماراً، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة، ويجوز أن تكون خبراً، والمبتدأ قوله: {وَعَادٌ} كذا قال أبو البقاء، وهو ضعيف، بل الظاهر أن {عاد}، وما بعده معطوفات على {قوم نوح}، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف، أو بدلاً من الأمم المذكورة {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} إن هي: النافية، والمعنى: ما كلّ حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد: تكذيب كلّ حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، أي: ما كلّ أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل {فَحَقَّ عِقَابِ} أي: فحقّ عليهم عقابي بتكذيبهم، ومعنى حقّ: ثبت، ووجب، وإن تأخر، فكأنه واقع بهم، وكلّ ما هو آتٍ قريب. قرأ يعقوب بإثبات الياء في {عقاب}، وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي. {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} أي: ما ينتظرون إلا صيحة، وهي: النفخة الكائنة عند قيام الساعة. وقيل: هي النفخة الثانية، وعلى الأوّل المراد: من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار، وعلى الثاني المراد: كفار الأمم المذكورة، أي: ليس بينهم، وبين حلول ما أعدّ الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية.
وقيل: المراد بالصيحة: عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة *** خرّوا لشدّتها على الأذقان
وجملة: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} في محل نصب صفة لصيحة. قال الزجاج: فواق، وفواق بفتح الفاء، وضمها أي: ما لها من رجوع، والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتقّ من الرجوع أيضاً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه، أي: رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد، ومقاتل: إن الفواق: الرجوع.
وقال قتادة: ما لها من مثنوية.
وقال السدّي: ما لها من إفاقة، وقيل: ما لها من مردّ. قال الجوهري: ما لها من نظرة، وراحة وإفاقة، ومعنى الآية: أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم، فإذا جاءت لم ترجع، ولا تردّ عنهم، ولا تصرف منهم، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، ومنه قول الأعشى:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت *** جاءت لترضع شقّ النفس لو رضعا
والفيقة: اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وجمعها فيق، وأفواق. قرأ حمزّة، والكسائي: {ما لها من فواق} بضم الفاء، وقرأ الباقون بفتحها. قال الفراء، وأبو عبيدة: الفواق بفتح الفاء: الراحة، أي: لا يفيقون فيها كما يفيق المريض، والمغشيّ عليه، وبالضم الانتظار {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاء، وسخرية، والقط في اللغة: النصيب، من القط، وهو: القطع، وبهذا قال قتادة، وسعيد بن جبير، قال الفراء: القط في كلام العرب: الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك: قط. قال أبو عبيدة، والكسائي: القط: الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته *** بغبطته يعطي القطوط ويأفق
ومعنى يأفق: يصلح، ومعنى الآية: سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47].
وقال السدّي: سألوا ربهم: أن يمثل لهم منازلهم من الجنة، ليعلموا حقيقة ما يوعدون به، وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى: عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير، والسدّي.
وقال أبو العالية، والكلبي، ومقاتل: لما نزل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها. وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
{واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الأيد} لما فرغ من ذكر قرون الضلالة، وأمم الكفر، والتكذيب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته، وتأسيته بذكر قصة داود، وما بعدها. ومعنى {اذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ}: اذكر قصته، فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوّة، ومنه رجل أيد، أي: قويّ، وتأيد الشيء: تقوّى، والمراد: ما كان فيه عليه السلام من القوّة على العبادة. قال الزجاج: وكانت قوّة داود على العبادة أتمّ قوّة، ومن قوّته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفرّ إذا لاقى العدّو، وجملة {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لكونه ذا الأيد، والأوابّ: الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه. وقيل: معناه: كلما ذكر ذنبه استغفر منه، وناب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأوّل، يقال: آب يؤوب: إذا رجع {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق} أيّ: يقدّسن الله سبحانه، وينزهنه عما لا يليق به. وجملة: {يُسَبّحْنَ} في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان، والمعجزة، وهو: تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال.
وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دويّ حسن، فهذا معنى: تسبيح الجبال، والأوّل أولى. وقيل: معنى: {يُسَبّحْنَ}: يصلين، و{مَعَهُ} متعلق بسخرنا. ومعنى {بالعشى والإشراق} قال الكلبي: غدوة وعشية، يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى. وأما شروقها، فطلوعها. قال الزجاج: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت. {والطير مَحْشُورَةً} معطوف على الجبال، وانتصاب {محشورة} على الحال من الطير، أي: وسخرنا الطير حال كونها محشورة، أي: مجموعة إليه تسبح الله معه. قيل: كانت تجمعها إليه الملائكة. وقيل: كانت تجمعها الريح {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} أي: كل واحد من داود، والجبال، والطير رجاع إلى طاعة الله، وأمره، والضمير في له راجع إلى الله عزّ وجلّ. وقيل: الضمير لداود، أي: لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أوّاب موضع مسبح، والأوّل أولى.
وقد قدّمنا أن الأوّاب: الكثير الرجوع إلى الله سبحانه: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قوّيناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم. وقيل: بكثرة الجنود {وءاتيناه الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} المراد بالحكمة: النبوّة، والمعرفة بكل ما يحكم به.
وقال مقاتل: الفهم، والعلم.
وقال مجاهد: العدل.
وقال أبو العالية: العلم بكتاب الله.
وقال شريح: السنة. والمراد بفصل الخطاب: الفصل في القضاء، وبه قال الحسن، والكلبي، ومقاتل.
وحكى الواحدي عن الأكثر: أن فصل الخطاب: الشهود، والإيمان؛ لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا.
وقيل: هو: الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له لما فيها من الأخبار العجيبة. قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين، جبريل، وميكائيل؛ لينبهه على التوبة، فأتياه، وهو في محرابه. قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد، والاثنين، والجماعة. ومعنى {تَسَوَّرُواْ المحراب}: أتوه من أعلى سوره، ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم اثنين، نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع. ومنه قول الشاعر:
وخصم غضاب قد نفضت لحاهم *** كنفض البراذين العراب المخاليا
والمحراب: الغرفة، لأنهم تسوروا عليه، وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام.
وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقيل: إنهما كانا إنسيين، ولم يكونا ملكين، والعامل في {إذ} في قوله: {إِذْ دَخَلُواْ} النبأ، أي: هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم؟ وبهذا قال ابن عطية، ومكي، وأبو البقاء. وقيل: العامل فيه أتاك. وقيل: معمول للخصم. وقيل: معمول لمحذوف، أي: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. وقيل: هو معمول لتسوروا. وقيل: هو بدل مما قبله.
وقال الفراء: إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى: لما {فَفَزِعَ مِنْهُمْ}، وذلك لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس. قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة، وجملة: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم؟ وارتفاع {خَصْمَانِ}، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن خصمان، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا بلفظ التثنية، لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد، والمثنى، والمجموع، فالكل جائز. قال الخليل: هو كما تقول: نحن فعلنا كذا: إذا كنتما اثنين.
وقال الكسائي: جمع لما كان خبراً، فلما انقضى الخبر، وجاءت المخاطبة أخبر الاثنان عن أنفسهما، فقالا: خصمان، وقوله: {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} هو على سبيل الفرض، والتقدير، وعلى سبيل التعريض؛ لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان. ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق، ونهياه عن الجور، فقالا: {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ} أي: لا تجر في حكمك، يقال: شط الرجل، وأشط شططاً، وإشطاطاً: إذا جار في حكمه. قال أبو عبيد: شططت عليه، وأشططت أي: جرت.
وقال الأخفش: معناه: لا تسرف، وقيل: لا تفرط، وقيل: لا تمل.
والمعنى متقارب، والأصل فيه البعد، من شطت الدار: إذا بعدت. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء {واهدنا إلى سَوَاء الصراط} سواء الصراط: وسطه. والمعنى: أرشدنا إلى الحق، واحملنا عليه. ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالاً شرعاً في تفصيلهما، وشرحها، فقالا: {إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} المراد بالأخوة هنا: أخوة الدين، أو الصحبة، والنعجة هي: الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة {وَلِى نَعْجَةٌ واحدة} قال الواحدي: النعجة البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج من البقر. قرأ الجمهور: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} بكسر التاء الفوقية. وقرأ الحسن، وزيد بن علي بفتحها. قال النحاس: وهي: لغة شاذة، وإنما عنى ب {هذا}: داود؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعنى بقوله: {ولي نعجة واحدة} (أوريا) زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي: ضمها إليّ، وانزل لي عنها حتى أكفلها، وأصير بعلاً لها. قال ابن كيسان: اجعلها كفلي، ونصيبي {وَعَزَّنِى فِى الخطاب} أي: غلبني، يقال: عزه يعزه عزاً: إذا غلبه. وفي المثل: من عزَّ بزَّ أي: من غلب سلب، والاسم العزة: وهي: القوة. قال عطاء: المعنى: إن تكلم كان أفصح مني. وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير: {وعازني في الخطاب} أي: غالبني من المعازة، وهي: المغالبة {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} أي: بسؤاله نعجتك؛ ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول، واللام هي: الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر. وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه، ولم يكن معه غيرها. ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر. قال النحاس: ويقال: إن خطيئة داود هي: قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ}؛ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء} وهم: الشركاء، واحدهم خليط: وهو المخالط في المال {لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي: يتعدى بعضهم على بعض، ويظلمه غير مراع لحقه {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطاً، ولا غيره {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي: وقليل هم، و{ما} زائدة للتوكيد، والتعجيب. وقيل: هي موصولة، و{هم} مبتدأ، و{قليل} خبره {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه}، قال أبو عمرو، والفراء: ظن يعني: أيقن. ومعنى {فتناه}: ابتليناه، والمعنى: أنه عند أن تخاصما إليه، وقال ما قال علم عند ذلك أنه المراد، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته. قال الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه، فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراده.
قرأ الجمهور: {فتناه} بالتخفيف للتاء، وتشديد النون. وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وأبو رجاء بالتشديد للتاء، والنون، وهي: مبالغة في الفتنة. وقرأ الضحاك: {افتناه}، وقرأ قتادة، وعبيد بن عمير، وابن السميفع: {فتناه} بتخفيفهما، وإسناد الفعل إلى الملكين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو {فاستغفر رَبَّهُ} لذنبه {وَخَرَّ رَاكِعاً} أي: ساجداً. وعبر بالركوع عن السجود، قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود، فإن السجود هو: الميل، والركوع هو: الانحناء، وأحدهما يدخل في الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة. ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر. وقيل: المعنى للسجود راكعاً، أي: مصلياً. وقيل: بل كان ركوعهم سجوداً. وقيل: بل كان سجودهم ركوعاً {وَأَنَابَ} أي: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له، وتاب عنه على أقوال: الأول: أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له، كذا قال سعيد بن جبير، وغيره. قال الزجاج: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، وصارت الأولى له، والثانية عليه. القول الثاني: أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة. الثالث: أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع: أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود، فزوّجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها. الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء، وإن صغرت، فهي عظيمة. السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا.
وأقول: الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام: أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها، ويضمها إلى نسائه، ولاينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء، فقد نبهه الله على ذلك، وعرض له بإرسال ملائكته إليه، ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه، ويتوب منه، فاستغفر وتاب.
وقد قال سبحانه: {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] وهو أبو البشر، وأوّل الأنبياء، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه. ثم أخبر سبحانه: أنه قبل استغفاره، وتوبته قال: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي: ذلك الذنب الذي استغفر منه. قال عطاء الخراساني، وغيره: إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه، وغمر رأسه. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} تامّ، ثم يبتدئ الكلام بقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} الزلفى: القربة، والكرامة بعد المغفرة لذنبه.
قال مجاهد: الزلفى: الدنوّ من الله عزّ وجلّ يوم القيامة، والمراد بحسن المآب: حسن المرجع، وهو: الجنة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} قال: من رجعة. {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا} قال: سألوا الله أن يعجل لهم.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير ابن عدي عنه: {عَجّل لَّنَا قِطَّنَا} قال: نصيبنا من الجنة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: {ذَا الأيد} قال: القوّة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأوّاب: المسبح.
وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأوّاب، فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: «هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء، فيستغفر الله».
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس قال: الأوّاب: الموقن.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق}.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عنه أيضاً قال: لقد أتى عليّ زمان، وما أدري وجه هذه الآية {يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق} حتى رأيت الناس يصلون الضحى.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عنه قال: كنت أمرّ بهذه الآية {يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق} فما أدري ما هي؟ حتى حدَّثتني أمّ هانئ بنت أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح، فدعا بوضوء، فتوضأ، ثم صلى الضحى، ثم قال: «يا أمّ هانئ هذه صلاة الإشراق».
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه. والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جدًّا قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم، فقال: إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك، فجحده، فسأل الآخر البينة، فلم يكن له بينة، فقال لهما داود: قوماً حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده، فأتى داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل الذي استعدى، فقال: إن هذه رؤيا، ولست أعجل حتى أتثبت، فأتى الليلة الثانية في منامه، فأمر أن يقتل الرجل، فلم يفعل، ثم أتى الليلة الثالثة، فقيل له: اقتل الرجل، أو تأتيك العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل، فقال: إن الله أمرني أن أقتلك، قال: تقتلني بغير بينة، ولا تثبت؟ قال: نعم، والله لأنفذنّ أمر الله فيك، فقال الرجل: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب، ولكني كنت اغتلت والد هذا، فقتلته، فبذلك أخذت، فأمر به داود، فقتل، فاشتدّت هيبته في بني إسرائيل، وشدّد به ملكه، فهو قول الله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} قال: أعطي الفهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال: أوّل من قال: أما بعد داود عليه السلام وهو {فَصْلٌ الخطاب}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الشعبي: أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتي داود: أما بعد.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن داود حدّث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى، وستعلم اليوم الذي تبتلي فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الذي تبتلي فيه، فأخذ الزبور، ودخل المحراب، وأغلق باب المحراب، وأخذ الزبور في حجره، وأقعد منصفاً يعني: خادماً على الباب، وقال: لا تأذن لأحد عليّ اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير فيه من كل لون، فجعل يدور بين يديه، فدنا منه، فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده؛ ليأخذه، فاستوفز من خلفه، فأطبق الزبور، وقام إليه، ليأخذه، فطار، فوقع على كوّة المحراب، فدنا منه؛ ليأخذه، فأفضى، فوقع على خصّ، فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها، فغطت جسدها أجمع بشعرها، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: انظر أوريا، فاجعله في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا، فقدّمه في حملة التابوت، فقتل، فلما انقضت عدّتها خطبها داود، فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل، وكتب عليه بذلك كتاباً، فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب، فتسوّر عليه الملكان المحراب، وكان شأنهما ما قصّ الله في كتابه، وخرّ داود ساجداً، فغفر الله له، وتاب عليه.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب قال: ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب عجب بنفسه، وذلك أنه قال: يا ربّ ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك، أو يسبح، أو يكبر، وذكر أشياء، فكره الله ذلك، فقال: يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي، فلولا عوني ما قويت عليه، وعزّتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال: يا ربّ فأخبرني به، فأخبر به، فأصابته الفتنة ذلك اليوم.
وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً بإسناد ضعيف.
وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطوّلة.
وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {إِنَّ هَذَا أَخِى} قال: على ديني.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وأحمد في الزهد، وابن جرير، والطبراني عنه قال: ما زاد داود على أن قال: {أَكْفِلْنِيهَا}.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَكْفِلْنِيهَا} قال: ما زاد داود على أن قال: تحوّل لي عنها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} يقول: قليل الذي هم فيه، وفي قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه} قال: اختبرناه.
وأخرج أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عنه أيضاً: أنه قال في السجود في {ص}: ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.
وأخرج النسائي، وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص}، وقال: «سجدها داود، ونسجدها شكراً».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص}.
وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعاً.
وأخرج الدارمي، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر {ص}، فلما بلغ السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة، ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود، فنزل، فسجد.
وأخرج ابن مردويه، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر يوم القيامة، فعظم شأنه، وشدّته قال: «ويقول الرحمن عزّ وجلّ لداود عليه السلام: مرّ بين يديّ، فيقول داود: يا ربّ أخاف أن تدحضني خطيئتي، فيقول: خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عزّ وجلّ، فيمرّ»، قال: «فتلك الزلفى التي قال الله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}».


لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي: وقلنا له {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ} استخلفناك على الأرض، أو {جعلناك خَلِيفَةً} لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} أي: بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي: هوى النفس في الحكم بين العباد. وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنصب على أنه جواب للنهي، وفاعل يضلك هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كلّ واحد منهما على حدة. وسبيل الله: هو طريق الحق، أو طريق الجنة. وجملة: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ} تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال، والباء في: {بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} للسببية، ومعنى النسيان: الترك، أي: بسبب تركهم العمل لذلك اليوم. قال الزجاج: أي: بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون، ويذكرون.
وقال عكرمة، والسدّي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا، أي: تركوا القضاء بالعدل، والأوّل أولى. وجملة: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} مستأنفة مقرّرة لما قبلها من أمر البعث والحساب، أي: ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً على الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا، فانتصاب {باطلاً} على المصدرية، أو على الحالية، أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى المنفيّ قبله، وهو مبتدأ، وخبره {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي: مظنونهم، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض، ويقولون: إنه لا قيامة، ولا بعث، ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم، وكفرهم. ثم وبخهم، وبكتهم فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض} قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة كما تعطون، فنزلت، و{أم} هي: المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة، أي: بل أنجعل الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي. ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر، وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه، فقال: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} أي: بل تجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين، والمنافقين، والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، وقيل: إن الفجار هنا خاص بالكافرين، وقيل: المراد بالمتقين الصحابة، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
{كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك} ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك خبر ثانٍ للمبتدأ ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة، والتقدير: القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير، والبركة. وقرئ: {مباركاً} على الحال، وقوله: {لّيَدَّبَّرُواْ} أصله: ليتدبروا، فأدغمت التاء في الدال، وهو متعلق بأنزلناه. وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر، والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر. قرأ الجمهور: {ليدبروا} بالإدغام. وقرأ أبو جعفر، وشيبة: {لتدبروا} بالتاء الفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن عاصم، والكسائي، وهي قراءة علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا بتاءين، فحذف إحداهما تخفيفاً {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي: ليتعظ أهل العقول، والألباب جمع لب وهو: العقل. {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} أخبر سبحانه: بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً، ثم مدح سليمان، فقال: {نِعْمَ العبد} والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعم العبد سليمان، وقيل: إن المدح هنا بقوله: {نعم العبد} هو لداود، والأول أولى، وجملة: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لما قبلها من المدح، والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه، والظرف في قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} متعلق بمحذوف وهو: اذكر، أي: اذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه {بالعشى} وقيل: هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، وقيل: متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت، والعشي: من الظهر، أو العصر إلى آخر النهار، و{الصافنات} جمع صافن.
وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي، والفراء: الصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل، أو غيرها، وبه قال قتادة، ومنه الحديث: «من أحب أن يتمثل له الناس صفونا، فليتبوأ مقعده من النار»، أي: يديمون القيام له، واستدلوا بقول النابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها *** عتاق المهارى والجياد الصوافن
ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع، وهو مصادرة؛ لأن النزاع في الصافن ماذا هو؟ وقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى اليدين، ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث، وهي: الرجلان، وإحدى اليدين، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، وهي: علامة الفراهة. وأنشد الزجاج قول الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيرا
ومن هذا قول عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه *** مقلدّة أعنتها صفونا
فإن قوله: صفونا لا بدّ أن يحمل على معنى غير مجرّد القيام، لأن مجرّد القيام قد استفيد من قوله: عاكفة عليه.
وقال أبو عبيد: الصافن هو: الذي يجمع يديه، ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه، فاسمه: المتخيم، والجياد جمع جواد، يقال: للفرس إذا كان شديدا العدو. وقيل: إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد، وهو: العنق، قيل: كانت مائة فرس، وقيل: كانت عشرين ألفاً، وقيل: كانت عشرين فرساً، وقيل: إنها خرجت له من البحر، وكانت لها أجنحة {فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى} انتصاب {حب الخير} على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى: آثرت. قال الفراء: يقول: آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئاً، فقد آثره. وقيل: انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد، والناصب له أحببت، وقيل: هو مصدر تشبيهي، أي: حباً مثل حب الخير، والأول أولى. والمراد بالخير هنا: الخيل. قال الزجاج: الخير هنا: الخيل.
وقال الفراء: الخير، والخيل في كلام العرب واحد. قال النحاس: وفي الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير»، فكأنها سميت خيراً لهذا. وقيل: إنها سميت خيراً لما فيها من المنافع. و{عن} في {عَن ذِكْرِ رَبِى} بمعنى: على. والمعنى: آثرت حبّ الخيل على ذكر ربي، يعني: صلاة العصر {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} يعني: الشمس، ولم يتقدّم لها ذكر، ولكن المقام يدلّ على ذلك. قال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء، أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل، وهو قوله: بالعشيّ. والتواري: الاستتار عن الأبصار، والحجاب: ما يحجبها عن الأبصار. قال قتادة، وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف، وسمي الليل حجاباً؛ لأنه يستر ما فيه، وقيل: الضمير في قوله: {حتى تَوَارَتْ} للخيل، أي: حتى توارت في المسابقة عن الأعين، والأوّل أولى، وقوله: {رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام قول سليمان، أي: أعيدوا عرضها عليّ مرّة أخرى. قال الحسن: إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله، وقال: ردّوها عليّ، أي: أعيدوها. وقيل: الضمير: في {ردّوها} يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأوّل أولى، والفاء في قوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} هي: الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام، والتقدير هنا: فردّوها عليه. قال أبو عبيدة: طفق يفعل، مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظلّ، وبات. وانتصاب {مسحاً} على المصدرية بفعل مقدّر، أي: يمسح مسحاً؛ لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، والأول أولى.
والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق، والمراد: أنه طفق يضرب أعناقها، وسوقها، يقال: مسح علاوته، أي: ضرب عنقه. قال الفراء: المسح هنا: القطع، قال: والمعنى: أنه أقبل يضرب سوقها، وأعناقها؛ لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجائز أن يباح ذلك لسليمان، ويحضر في هذا الوقت.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح ما تقدّم.
وقال آخرون: منهم الزهري وقتادة: إن المراد به: المسح على سوقها، وأعناقها لكشف الغبار عنها حباً لها. والقول الأوّل أولى بسياق الكلام، فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردّها عليه؛ ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك، وما صدّه عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردّها عليه هو كشف الغبار عن سوقها، وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن إفساد المال لا يصدر عن النبيّ، فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرّر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح على أن إفساد المال المنهيّ عنه في شرعنا إنما هو مجرّد إضاعته لغير غرض صحيح، وأما لغرض صحيح، فقد جاز مثله في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر.
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض} قال: الذين آمنوا: عليّ، وحمزة، وعبيدة بن الحارث، والمفسدين في الأرض: عتبة، وشيبة، والوليد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: {الصافنات الجياد}. خيل خلقت على ما شاء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {الصافنات} قال: صفون الفرس: رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر، وفي قوله: {الجياد}: السراع.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: {حُبَّ الخير} قال: الماء، وفي قوله: {ردّوها عليّ} قال: الخيل {فَطَفِقَ مَسْحاً} قال: عقراً بالسيف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: الصلاة التي فرّط فيها سليمان صلاة العصر.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله: {إذ عرض عليه بالعشيّ الصافنات الجياد} قال: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، فعقرها.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن مسعود بقوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} قال: توارت من وراء ياقوتة خضراء، فخضرة السماء منها.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس قال: كان سليمان لا يكلم إعظاماً له، فلقد فاتته صلاة العصر، وما استطاع أحد أن يكلمه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {عَن ذِكْرِ رَبِى} يقول: من ذكر ربي {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} قال: قطع سوقها، وأعناقها بالسيف.

1 | 2 | 3